تغطي فتاوى وبحوث الفقه وأصوله، وخاصة تلك المتعلقة العبادات المحضة، وبمعاملات الأسواق، وبالأحوال الشخصية، تغطي المساحة العظمى من جبل التراث الإسلامي الأشم المتراكم عبر الزمن؛ لكن حالة الطوارئ التي طبعت التاريخ السياسي الإسلامي، منذ الفتنة الكبرى، وما تلاها ونجم عنها من الملك الأسري القبلي والفئوي العضوض، وما أنتجته الحروب الدامية والمؤامرات والمكائد، من طغيان وفجور السلاطين؛ كل ذلك شكل قيودا لا فكاك منها للعلماء والمؤلفين، منعتهم من الخوض بحرية فيما يتعلق بالدولة والسلطة وضوابطها وأحكامها، فجاء التراث الدستوري للأمة زهيدا، ضئيلا، ومنحازا جدا للواقع الذي أنتجه. وإن تعجب؛ فعجب أن ترى وتسمع الفقهاء والمفتين منا، وهم أحفاد أهل بادية هذا المنكب البرزخي والصحراء السائبة، الذين لم يخضع منهم أحد قط لسلطان جامع، يتكئون في فتاويهم المجادلة- بالحق وبالبطل- عن الرؤساء والحكومات، في دول القرن الواحد والعشرين، يتكئون على خطط سلطانية، ووظائف ومفاهيم بائدة، عرفتها بعض عواصم المتغلبين، بعد النبوة والخلافة الراشدة، ثم اعتبرها الخلف تراثا إسلاميا متبعا في السياسة والحكم!! ومع أن التراث السلطاني في ظل حالة الطوارئ التاريخية السابقة الإشارة إليها، والتي ما زالت تلقي بشيء من قتامها على واقع الناس اليوم، هو في الجملة تراث زهيد وكريه، فإن أشده حقارة وأبعده عن المثل الأخلاقة وضوابط الدين وقيم القسط التي بعث الرسل وأنزلت الكتب لإرسائها، هو خطط السياسة والحكم، القائمة على الحق الإلهي، بل وعلى تأليه السلطان وفرعنته، والمبالغة في إشباع نزوته ورغبته، والتخويف من سطوته وبطشته!! أبرز ما تتجلى تلك الحقارة في تحريف الكلم عن مواضعه، وإخراج الفعل عن سياقه، عندما يتعلق الأمر بهيئات وهمية أطلقوا عليها "ديوان الحسبة" و"دواوين المظالم" حيث يسلط الحاكم في الأولى مجموعة أعوان السوء على الناس في اسواقهم ومصادر أرزاقهم، بذريعة الاحتساب، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فتصادر خيار أموالهم، وتقدمها قربانا للسلطان وحاشيته؛ وحيث يبث السلطان وبطانته عيونهم للتجسس على الناس، والتحسس من المنافع والغلات المجباة، وتخيير المستضعفين من ضحايا ظلم السلطان والأعوان والقادة، بين التنازل، علنا، عن أي حق أو مظلمة تتعلق بالسلطان وحاشيته، وبين غيابات السجون.... في انتظار المقابر!! |