حينما سألناه عن مجموع ما درسه في "المَحْظَرَة" (= مؤسسة التعليم الأهلي العربي الإسلامي ببلاد شنقيط/ موريتانيا)؛ أجابنا بأنه درَس 48 علما من السلالات المعرفية تمثل البناء الأصيل والرصين للثقافة العربية الإسلامية. كانت قاعدة هذا التحصيل هي مَلَكَة الحفظ القوي والمتفاعل مع أدوات التأويل والاستنباط؛ وبالتالي لم يكن فيها الحفظ وحده هو الغاية، بل الهدف الأسمى هو العملية التفاعلية بين الاستيعاب والنص والتي تدور في عقل ووجدان الطالب "المَحْظَري".
ويمثل الشيخ العلامة محمد الحسن الدَّدَوْ الشنقيطي -رئيس مركز تكوين العلماء بموريتانيا- نموذجا قياسيا لهذا النمط من التعليم العربي الحضاري الذي استمدته بلاد شنقيط من روافد عديدة أبرزها رافد الإرث المعرفي للأندلس، التي تزامن سقوط حواضرها الكبرى مع بدايات تشكل هذا النمط الشنقيطي؛ فالمتأمل لحديث الشيخ الدَّدَوْ يتسرب إليه بسهولة شعور الاختلاف في التكوين الذي ناله عن نظيره لدى معاصريه من العلماء في أقطار أخرى، حيث تتهادى إليه النصوص الشرعية والأدبية والتاريخية منسابةً بين يديْه بكل سلاسةوضبط وتدفق.
إن حوارنا مع الشيخ الدَّدَو ليس عن ماهية علمه واستيعابه فقط، بل عن الآلية والكيفية التي تأهَّل بها حتى تحقَّق له هذا النموذج المعرفي الموسوعي، حوارنا كان عن مفاتيح التعلم الحضاري "المحظري"، وقصدنا بصفة "الحضاري" هنا تلك الصيغة التاريخية لعملية المعرفة التي سادت عند مفكري وعلماء الإسلام طوال القرون، حيث تمثل المعرفة كُلًّا واحدا، متداخل التأثير، مستقل التخصص، يشد بعضه بعضا، ولا يغيب عن عقل وذهن صاحبه!
حدَّثنا الشيخ عن طفولته حيث استوى على يد نسوة أهل بيته لسانا وشِعْرا وسيرة وتربية، بما يجعله مؤهَّلًا لِعالَم "المحظرة"؛ نعم هي حياة من المعرفة تتخللها معيشة، حيث يدخل الطالب بكلياته في بيئة معرفية يبدأ نشاطها قبل الفجر ولا تنتهي حتى ينقضي شطر وافر من الليل. في هذه البيئة "المحظرية"؛ تتراكم النصوص على النصوص دون أن تُزاحِم المعارفُ بعضُها بعضاً، وفيها تتوثق علاقة وجدانية خاصة تربط الطالب بثلاثية التحصيل: الشيخ والكتاب وزملاء التحصيل. تردَّد الشيخ كثيرا في الموافقة على الحديث عن نفسه وتجربته، ولكنه وافق بعد إلحاحنا نزولا عند ضرورة توثيق تجربته المهمة والملهمة في التعامل مع التراث دراسة وتدريسا.
النشأة الأولى
* نشكركم على ما خصصتم به صفحة "تراث" من وقت ثمين لإجراء أول مقابلة لها منذ انطلاقتها. وبداية؛ دائما ما يسأل القراء عن النشأة الأولى للعلماء والشخصيات البارزة.. فهلا حدثتمونا عن نشأتكم وكيف كان تعليمكم "المحظري"؟ وكيف ساهم في سيرتكم ومسيرتكم العلمية؟
بين يديْ هذا الحديث؛ أؤكد أن حياتي ليس مَرْضِيًا عنها وليست محلا للاقتداء، ولا تُذكر في هذا المجال لأنني ضعيف في التلقي وضعيف في العلم، ثم إن ابتداء حياتي هو ما أذكره منها فقط، فما سبق ذلك لا أعدّه من حياتي فيما يتعلق بالدراسة. وهنا أذكر يوما -وأنا في نهاية السنة الخامسة تقريبا من عُمُري- أن أحد الأقارب -وكان يكبرني بسنتين- كُتب له في "اللوح" (= لوح خشبي يكتب فيه الطلاب دروسهم) بداية حروف التهجي فأصابتني الغيرة منه وبكيت، فأهدت إليّ إحدى النساء لوحاً كُتبت لي فيه حروفُ التهجي، ودرّستها لي عمتي في فترة قصيرة، ثم بدأت قراءة القرآن برواية ورش (ت 197هـ/812م) عن نافع المدني (ت 170هـ/785م) وأكملت حفظه في نهاية السابعة من عمري.
حينها كانت عادة الناس عندنا أن الأطفال الصغار يُبدأ تعليمهم ببرنامج بدوي يسمى "تمييز الْمامي" نسبة إلى مبتكره وهو العلامة محمد الْمامي الشنقيطي (ت 1292هـ/1876م)، و"التمييز" عندهم معناه قدرة الطفل على التفريق بين أقسام الكلام: الاسم والفعل والحرف. وبرنامج "تمييز المامي" هذا عبارة عن تعليم اللغة العربية للأطفال على وجه يتناسب مع مستواهم العمري ومدارك عقولهم، يتولى تعليمَهم إياه الأمهات ويكون وقت تلقيهم هذا البرنامج بين المغرب والعشاء.
ومن نماذج هذا البرنامج أن الأم تقرأ بيتا شعريا -أو آية قرآنية أو حديثا نبويا- على الأطفال فيحفظونه، ثم تبدأ تسألهم فيما يتضمنه من معانٍ مختلفة، فمن أوائل أبيات الشعر التي يُمتحن بها الأطفال في برنامج "تمييز المامي" قول البوصيري (ت 696هـ/1295م):
قد تُنْكِرُ العَينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ ** ويُنْــكِرُ الفمُ طــعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ
فهذا البيت شطراه متطابقان من ناحية الإعراب النحوي؛ فالأم تسأل أولادها أسئلة وكلما أجابوا على أحدها طرحت عليهم الذي بعده حتى تنتهي الحصة التعليمية. فتسألهم مثلا عن كلمة "قد" الواردة في البيت السابق: ما "تمييزها".. هل هي اسم أو فعل أو حرف؟ وهل هي مُعْرَبَة أو مَبْنِيّة؟ وعلى أي شيء تُبنَى: هل على سكون أو حركة؟ ثم تسألهم الأم عن معنى حرف "قد" فتعلمهم أن له ثلاثة معان (التقليل والتقريب والتحقيق)، ثم تسألهم عن عمله نحويا.
ثم تتجاوز الأمُّ حرف "قد" إلى الكلمة التي بعده في البيت المتقدم وهي "تُنْكِرُ"؛ فتسألهم: هل هي اسم أو فعل أو حرف؟ فيقولون مثلا: "فعل"، فتسألهم: أي أنواع الفعل الثلاثة؟ وهل هو فعل مُعْرَبٌ أو مَبْنِيّ؟ وما إعرابه؟ وما علامة إعرابه؟ ثم تسأل الأم عن أصل مادة هذا الفعل "تُنْكِرُ"، وعن عدد مفردات اللغة التي تتألف من احتمالات تركيب حروفها (وهي ستة: نَكَرَ – نَرَكَ – كَرَنَ – كَنَرَ – رَكَنَ – رَنَكَ)، وتسألهم عن معنى كل مفردة منها وهل هي مهملة أو مستعملة.
فهذا ملخص لبعض ما يدور في الدرس الليلي المخصص للأطفال، فتارة يجيب الأولاد بالصواب وتارة بالخطأ، وتصحح لهم أمهم ما أخطؤوا فيه. ولا أزال أذكر أن أمِّي -حفظها الله- ألقت علينا بيتا ونحن صغار، وهو قول الشاعر:
شَجاكَ أظُنُّ رَبْعُ الظاعنينا ** ولمْ تَعْبأ بقولِ العاذلينا!
فـ"ميّزتُ" أنا البيتَ، فقلت: "شجاك" فعل ماض فاعله ضمير مستتر ومفعوله الكاف، فضحك أخواتي مني لأنني أخطأت لأن كلمة "شجاك" مصدرٌ مضافٌ وليست فعلا؛ وما زلت أذكر بكائي لتأثري من ضحكهن من خطئي!
وفي هذه السن يتعلم الأطفال بعض الكتب المخصصة لهذه المرحلة، وقد درسنا فيها منظومة "الآجرومية" في مبادئ علم النحو، ولا أذكر الآن هل حفظناها مكتوبة في الألواح الخشبية أو في الورق. وبعدها درسنا "مختصر الأخضري" في الفقه، وقد ابتدأه مؤلفه ببعض المبادئ والقيم العامة في الإسلام ثم ذكر فيه أحكام الطهارة والصلاة.
قصص وأشعار
وفي هذه الفترة أيضا يتعلم الأطفال حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بسماعهم لقصص السيرة من أمهاتهم؛ ففي كل ليلة يسمعون قصة، وبعض القصص تكون طويلة بحيث لا تستوعبها حكاية واحدة فتقسم بين ليلتين ويتعود فيها الأمهات على "المواقف"، أي أن التوقف أثناء سرد قصة غزوة بدر (سنة 2هـ/624م) مثلا يكون عند الموقف كذا؛ فهناك موقف عند قتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، وموقف عند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرَّوحاء (= مكان قرب المدينة على طريق مكة)، وهكذا فالمواقف معروفة المواضع.
وهذه القصص ترويها الأمهات باللهجة الحسانية السائدة بموريتانيا، ومنها يتعرف الأطفال على أسماء الشخصيات (رجالا ونساء) وأنسابها؛ فقد سألني -وأنا صغير- أحدُ أخوالي: هل تعرف عبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م)؟ فقلت: نعم، أتانا قبل كذا! لأني كنت أتصور أنه جاءنا ضيفا، فنحن صغار نعرف أنه يكنى بأبي عبد الرحمن ونسوق من حفظنا نسَبَه إلى آدم عليه السلام.
ثم إننا نعرف أن أمه هي زينب بنت مظعون الجُمَحِية ونعدّ نسبها إلى أن يلتقي مع أبيه عمر، وأن أم أبيه هي حَنْتَمَة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهذا مكان التقائها مع أبيه. ونعرف أنه هاجر به أبوه صغيرا، وأنه بلغ في السنة الثالثة من الهجرة عندما كان عمره أربع عشرة سنة.. إلى آخر المعلومات الواردة عنه، وقد تعوّدنا عليها حتى كأننا نعرف عبد الله بن عمر بشكله وهيئته، وهكذا يتعرف الأطفال على كل الصحابة بهذه القصص.
ثم إن هذه القصص ترِد فيها أشعار، وهذه الأشعار أيضا يُلزَم الأطفالُ بحفظها سواء كانت من قصائد حسان بن ثابت (ت 54هـ/673م) في غزوة بدر أو في غزوة أحد (سنة 3هـ/625م)، مثلا قصيدته المشهورة التي مطلعها:
مَنَعَ النَومَ بالعشاءِ الهُمومُ ** وخَيالٌ إِذا تَغورُ النُجومُ
وقصيدته في فتح مكة:
عَفَت ذاتُ الأَصابِعِ فَالجِواءُ ** إلى عَذراءَ مَنزِلُها خَلاءُ
وكذلك قصائد كعب بن مالك (ت 50هـ/669م) وغيره من الصحابة، وفي المقابل يحفظون قصائد شعراء المشركين -قبل إسلامهم- كعبد الله بن الزِّبَعْرَى (ت نحو 15هـ/636م) وضرار بن الخطاب (ت 13هـ/634م) القريشييْن. وتتكون حصيلة الأطفال من السيرة النبوية بهذه القصص، ثم يتعرف على قصص الأنبياء عليهم السلام الواردة في القرآن الكريم، وأذكر أننا كنا نبكي بشدة عند سماع قصة يوسف عليه السلام وقصص أخرى، فكانت تؤثر فينا تأثيرا بالغا ونحن صغار.
وفي هذه الفترة أيضا يبدأ الأطفال في حفظ بعض المختصرات العقَدية ودراستها، وتُستغَلّ الإجازتان السنوية والأسبوعية في مراجعة ما حفظوه من القرآن، وتكون الإجازة السنوية غالبا في رمضان أو ربيع الأول، وكذلك إجازتا عيديْ الفطر والأضحى، فلهذه الإجازات برامج للأطفال يحرص أمهاتهم على تطبيقها.
وفي هذا البرنامج تكون عادةً بداياتُ التعرف على الشعر وبالأخص الشعر الجاهلي، ومن مقرراته آنذاك: قصيدة "لامية العرب" للشَّنْفَرَى (ت نحو 525م) وديون الشعراء الستة الجاهليين، وبعض أشعار المراثي الجاهلية مثل مراثي الشاعرة الخنساء (ت 24هـ/644م) لأخيها صخر، ومرثية الأعشى (ت 7هـ/629م) للمنتشر بن وهب الباهلي. ثم بعد أن يحفظ الأطفال شعر الشعراء الستة -وهو حوالي ألفيْ بيت!!- يبدؤون في حفظ قصائد بعض الشعراء الإسلاميين كشعر حسان بن ثابت في غير الغزوات، مثل قصيدته في مدح آل جَفْنَة الغسّانيِّين وقصيدته الميمية في ملِك الغساسنة جبلة بن الأيهم (ت 54هـ/676م). وفي مثل هذا العمر ربما تعلق بأذهان الأطفال أشعار محلية لبعض الموريتانيين كما حصل معي، سواء منها الشعر الجديد الذي ينشئه الشعراء المعاصرون لزمن الطفل أو شعر مَن سبقهم، فحين يرى الطفل الناس تكتب قصائد معينة يهتمّ هو بها ليرويها معهم.
ولذلك كنت أروي أشعار جدي لأمي العلامة محمد عالي بن عبد الودود (ت 1402هـ/1981م) كلها في فترة الصبا، وقد حصلت لي قصة معه -بعد هذه الفترة طبعا- حين ذهبنا في تعزية لأهل أحد العلماء من زملائه، فبدأ الشيخ -ونحن أثناء الرحلة- ينشئ قصيدة لرثاء زميله المتوفَّى، فكان في السيارة يُمْلِي عليّ بيتا ويقول لي: احفظ هذا، ثم ينشئ آخر.. وهكذا، فلما أتينا قرية المتوفَّى وانتهى سلامنا قال لي: يا محمد الحسن، أنشد القصيدة التي أمليتُ عليك! فكان في الأمر إحراجا شديدا لي، فأنشدت القصيدة من حفظي لها في السيارة وهي أكثر من عشرين بيتا.
ثلاثية ذهبية
* إذا أردنا أن نتكلم عن العلاقة بين الثلاثية المتلازمة في التعليم التراثي: الشيخ وطلاب "المحظرة" والمنهج العلمي المقرر؛ فكيف ترونها؟
طبعا هذه أمور لا بد منها، فهي ليست من المكملات بل هي شروط لا غنى عنها؛ فبالنسبة للشيخ لا يمكن للإنسان أن يتعلم بدونه، فلذلك فإن أبا حيان الأندلسي (ت 745هـ/1345م) يقول من جملة أبيات:
إِذَا رُمْتَ العُلُومَ بِغَيْرِ شَـيْخٍ ** ضَلَلْتَ عَنِ الــصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ
وَتَلْتَبِسُ الأمورُ عَلَيْكَ حَتَّى ** تَصِيرَ أَضَلَّ مِنْ "تُومَا" الحَكِيمِ
والشيخ شَرْطيّتُه لهذا واضحةٌ في النصوص الشرعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بدأ نزول الوحي عليه أرسِل إليه جبريل، وموسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؛ فالشيخ إذن شرط لا بد منه، والشيخ لا بد أن يكون ناصحا مجرِّبا عالما، ولو كان يتقن بعض العلوم دون بعض فينبغي أن تَأخذ عنه ما يتقنه ثم تتجاوزه إلى غيره من الشيوخ.
ثم يأتي الكتاب وهو رفيق الدرب للمتعلم إذ هو شيخه الثاني، وهو عمدته في حفظه لأن ما نقصت فيه الذاكرة أو قصرت دونه سيجده في الكتاب، ولذلك كان العلماء يعدّون الكتب أشياخا. والكتب لا بد فيها من التنوع؛ فمنها كتب للدراسة وهي كتب المتون التي تدرّس عندنا في "المحاظر" أو يقررها المشايخ ليدرسها الناس ويحفظوها عن ظهر غيب، فـ"المحاظر" التي أدركناها كان يُدرَّس فيها ثمانية أربعون علما متخصصا يدرسها الطلاب على ترتيبها من الأسهل إلى الأصعب، ثم تتوسع العلوم فيما سوى ذلك وبعضها يؤخذ من طريق المطالعة فقط.
ثم تأتي الكتب التي هي مخصصة للمطالعة وهذه ليست للمقررات المحظرية بل هي للمطالعة فقط، والمطالعة لا يُستغى عنها بل لا بد أن يتعودها الإنسان حتى ولو كانت للجرائد والمجلات، فكنا -ونحن صغار- تأتينا مجلات وجرائد فنحرص على تبادلها إذا ختمها فلان يسلمها لفلان وهكذا، وكذلك كثير من الكتب التي هي للمطالعة أصلا فإنها ما وُضعت لتُشرح لأنها شروح بذاتها أو حواشٍ على شروح أو هي كتب فكرية، فهذه لا تحتاج إلى شرح الشيوخ، ومن أهم أركان المطالعة المحبة لها والنَّهَم فيها.
والغريب أن هذه المطالعة كانت تستحوذ على عقول الناس وتأخذ أوقاتهم فينسى معها الإنسان الطعام والشراب، بل إنه أحيانا ينسى الصلاة إذا انغمس في قراءة كتاب ودخل في موضوع يريد أن يكمله فلا يشعر بشيء من حوله، فقد كنا نحب الكتب حبًّا جمًّا. وأذكر أنني كنت أقرأ ذات يوم كتابا أول مرة أراه وهو ‘المُعجِب في تلخيص أخبار المَغرب‘ للمؤرّخ محيي الدين المراكشي (ت 647هـ/1249م)، ودخلتُ في تاريخ الدولة الموحدية فانغمست فيه -وأنا في البادية- فما شعرت إلا بالظلام يحول بيني وبينه، وأنا ما صليت المغرب بعدُ!
وكذلك كتب الأدب والشعر والقصص فهذه مما تحبب القراءة والكتب إلى الإنسان، وكان كثير من الأطفال ينامون على كتبهم يمسكونها على صدورهم وهم على فُرُشهم، وقد كنت -وأنا صغير- يأتيني رُعَافٌ شديد خلال المطالعة فلا أشعر به حتى يصل إلى الكتاب، ولذلك عندنا الآن عدد من الكتب على صفحاتها دم بسبب هذا الرعاف!
بعد الشيخ والكتاب تأتي قضية الزميل المنافس، وهذا أصل أيضا من أصول طلب العلم لا بد منه؛ فبعد أن يخرج الإنسان من مدرسته الأولى مدرسة الأمّ التي يحفظ فيها القرآن والكتب الصغيرة، التي تشرحها له هي أو من معها من النساء اللواتي تكلفهن بهذا الأمر؛ يذهب الطالب إلى حلقات تدريس البالغين، وأول ما يبحث عنه هو الزميل الذي سيشد أزره وينافسه، وهذه المنافسة مهمة جدا ليكتشف بها الإنسان نفسه ونقصه ويقوّم بها ذاكرته، فمنذ القدم كان للمنافسين -سواء كانوا أعداء أو أصدقاء- أثر في تكوين النفوس، ولذا قال الشاعر:
عِدايَ لهمْ فضلٌ عليّ ومِنَّةٌ ** فلا أبعدَ الرحـمنُ عني الأعـاديا!
همُ بحثوا عن زَلّتي فاتقيتُها ** وهمْ نافسوني فاكتسبتُ المعالـيا!
ولذلك يحتاج الإنسان لمن ينافسه ويعيش معه حياة الطلب، فيتذوق معه هذه العلوم ويراجع معه شروحها، وينافسه في المطالعة والحفظ والمذاكرة، وفي تحسين الخط لأن الخطوط يومها لم تكن تدرّس عندنا في "المحاظر"، فكان الناس يتعودون على المنافسة في الخطوط وإتقانها، خاصة أن المطابع لم تكن في بلادنا وكانت الكتب في معظمها مخطوطات، كما أن كثيرا من الكتب يُشتَرط أصلا لطالب العلم أن يخطها لنفسه، حتى إنه لا يتكل على أن لأبيه نسخة منها!
وأحيانا نجد أن بعض الأمهات كانت تتولى الكتابة عن ابنها، فتقول له: تفرغ أنت للحفظ والمنافسة وأنا أكتب لك ما يكتبه زملاؤك جميعا! فنحن لدينا الآن حوالي 41 مجلدا بخط جدتي، وكان الهدف الأساسي عندها من ذلك أن يتفرغ أولادها للتحصيل العلمي، ومن الكتب الموجودة عندنا بخطها كتاب فقهي بعنوان: ’ثِماني الدُّرَر في شرح المختصر’ للعلامة عبد القادر بن محمد المجلسي الشنقيطي (ت 1337هـ/1918م)، وهو في سبعة مجلدات مخطوطة ولو طُبع لكان واحدا وعشرين مجلدا!!
برنامج مشحون
* من هو أول شيخ تعرفتم عليه؟ وكيف كان منهجه التدريسي؟
بعد أن درستُ على الوالدات: الأم والجدة وعمة الوالدة وخالة الوالد وعمتي أنا مباشرة، فهؤلاء النسوة هن أول شيوخي؛ أخذت عن والدي القراءات والإجازة فيها وعلوم القرآن الأولية (الرسم والضبط والتجويد ومخارج الحروف)، وقراءة نافع بإكمالها بالإجازة برواية عيسى بن مينا المصري المعروف بقالون (ت 220هـ/835م).
ثم تفرغت للدراسة على جدي العلامة محمد عالي، فلازمته تسع سنوات فقرأت عليه فيها الكتب التسعة في الحديث، وأيضا ثمانية وخمسين كتابا في النحو والصرف، وعددا كثيرا من كتب فقه المذهب المالكي والمذاهب الأخرى مثل ‘المُغْني‘ لابن قدامة المقدسي (ت 620هـ/1223م)، وقد سمعت منه ’الشفا’ للقاضي عياض (ت 544هـ/1150م) ثلاث عشرة مرة، و’فتح الباري’ لابن حجر (ت 852هـ/1448م) كاملا خمس مرات، وتفسير القرطبي (ت 671هـ/1272م) قرأناه عليه ست مرات، وكانت هذه القراءات في مجالس علمية تعقد خارج الوقت المخصص لشرح المتون العلمية. أما طريقة جدي في التدريس فهي مشهورة معروفة؛ فقد كان يحلل ألفاظ المتن لغة واصطلاحا بمنتهى الدقة والتفصيل، ثم بعد أن يُنهي الدرس يعود إليه بالاستدلال والتأصيل لكل جزئية فيه.
* هل كان ثمة ترتيب للفنون في مجلس التدريس؟ وكيف كان برنامج شيخكم اليومي؟
لا بد أن يكون ثمة ترتيب لكتب الدراسة لأن "المحاظر" من النادر جدا أن تكون فيها دراسة طالب واحد لفنين في وقت واحد. لكن الشيخ جدي كان أحيانا يتجاوز لنا عن ذلك؛ فأنا مثلا كنت في الصباح أدرس مع الطلاب، وفي الليل يختار لي الشيخ كتابا آخر زيادة على ذلك بالإضافة إلى كتب السماع.
أما عن برنامج الشيخ اليومي؛ فنحن ما كنا ندري متى يستيقظ لكنه كان يوقظنا في السدس الأخير من الليل (= الرابعة ليلا تقريبا) للأذكار والوضوء والسواك والتجهز للصلاة، ثم يكون هو أول من يؤذن ثم يصلي الفجر وكان أبي هو الإمام، ثم بعد صلاة الفجر يبدأ الشيخ أذكاره ولا يتحرك من مكانه حتى ترتفع الشمس فيصلي ركعتين، ثم يعود إلى البيت فيجد الطلاب قد أخذوا أماكنهم، والطلاب في "المحظرة" قسمان: فرادى و"دُوَل"، و"الدُّوَل" جمع "دَوْلة" والمقصودة بها في اصطلاحهم مجموعة طلاب تدرس كتابا واحدا مشتركا بينها، والفرادى تقال للشخص الذي يدرس كتابا وحده، وعادة يبدأ الشيخ بتدريس "الدُّوَل" قبل الأفراد إلا إذا كان لأحدهم عذر يستحق به التقديم كسفر أو مرض.
ولم يكن الشيخ يرتب "الدُّوَل" حسب الفنون بل حسب الأولية فأول من حضر يكون هو الأَوْلى بالتدريس، وهناك شخص مكلف بكتابة الحاضرين حسب أسبقيتهم، وتكون اللائحة بين يدي الشيخ فيقدم الأول فالأول. وحين يبدأ الشيخ تدريسه لا يقوم من جلسته إلا لصلاة الظهر، والغالب أن تكون الدروس قد شملت غالب الفنون وأتت على كل الحاضرين، فإذا صلى يستقبل في المسجد الضيوف والمستفتين وأصحاب الحوائج، ثم يعود إلى البيت للراحة قليلا ثم يستيقظ ليؤذِّن لصلاة العصر.
وبعد صلاة العصر يبدأ وقت الإجازة، وهي أن يقرأ الطلاب على الشيخ ما سيحفظونه فيصححه لهم، ويكون كلما يحفظونه قد رُوي عنه رواية صحيحة متصلة بأسانيده، وأحيانا يذكر الشيخ روايات مختلفة للمتن. وبعد أن ينتهي الطلاب من الإجازة؛ يبدأ الشيخ ورده اليومي من القرآن وهو يقرأ كل يوم رُبُعَ القرآن، ثم يبدأ درس المطالعة الذي لا يحضره الطلاب عادة وإنما يحضره أهل بيت الشيخ فقط وأفراد قليلون، وهو الذي ذكرتُ أننا قرأنا فيه الكتب المتقدمة من تفسير وشروح حديث ونحوها.
أما برنامج الشيخ الليلي فيخصصه لتدريس النساء، حيث يجتمعن بعد صلاة العشاء ويكنّ مثل الطلاب في النهار، فمنهن من تدرّسهن النساءُ ومنهن من يدرسنَ على الشيخ، والأخيرات يأخذن مجالسهن في البيت بعد الصلاة ونوافل الشيخ، ولهن أيضا ترتيب في الأولية مكتوب حسب الأسبقية، وقد وصف مؤرخ موريتانيا العلامة المختار بن حامد (ت 1413هـ/1993م) دراسة النساء في مجلس جدي بقوله من مقطوعة شعرية:
يجـــتمع النــــــساءُ كلَّ لــــــيلةِ ** مِن بعدما صَلَّيْنَ في الجماعةِ
خلفَ مُميتِ الجهلِ مُحيي السُّنةِ ** مبارَكِ التـــعبيرِ عالي الرتبةِ
يَعينَ ما يَسمـــــعنَ من موعظةِ ** حســــنةٍ وحكـــــمةٍ بالـــــغةِ
تكوين مكين
* ما هي العلوم التي درستموها في "المحظرة"؟
درستُ في المحظرة ثمانية وأربعين علما وهي عبارة عن سلالات؛ ففي علم القرآن ندرس علم التجويد والرسم والضبط والتفسير وتفسير آيات الأحكام، وطبقات المفسرين والقراءات وعلوم القرآن، وفي الحديث نظير ذلك حيث ندرس علوم الحديث، وعلم العلل وعلم التخريج والأسانيد والرجال، ومتون الحديث وشروحها وتاريخ السنة.
وفي علوم الفقه ندرس الفقه المذهبي، والفقه المقارن، والأقضية والنوازل، وعلم الفرائض (= المواريث)، والآداب الشرعية، وعلم أصول الفقه، والقواعد الفقهية، وتخريج الفروع على الأصول، وعلم الأشباه والنظائر، وعلم الفروق والاستثناء، والجدل الفقهي، وتراجم الفقهاء في مختلف المذاهب.
وفي علوم اللغة ندرس علم المفردات والشعر والنحو والصرف والبلاغة بعلومها الثلاثة، وعلم العروض والقوافي مع الدُّربة على قرض الشعر، وعلوم الاشتقاق الثلاثة، وعلم فقه اللغة المعروف حديثا باللسانيات. وفي علوم الرواية ندرس السيرة والأنساب والتاريخ الإسلامي والتاريخ العام وفتوح الأمصار وتاريخ الحضارة.
وفي العلوم العقلية ندرس علم الكلام والمنطق والفلسفة والجدل العقدي. وفي علوم التربية ندرس التصوف والسلوك وعلوم الآداب: آداب السفر والحضر والطلب وآداب الصحبة. وقد زدنا -في "مركز تكوين العلماء" الذي أسسناه في العاصمة الموريتانية نواكشوط- على هذه العلوم مقررات أخرى فصارت ثلاثة وستين علما!!
* ما هي أهم مقررات المنهج التعليمي الذي كوَّن العلماء الشناقطة الذين كان لهم صدى علمي واسع بأقطار المشرق الإسلامي كمصر والحجاز والأردن والعراق والهند؟
بالنسبة للعلِم فهو موروث مشترَك لهذه الأمة كلها وإنما تشغل عنه بعض الشواغل المدنية؛ فأصحاب النعمة الذين لديهم نِعَمٌ سابغة من الله وراحة دائما يقِلُّ نصيبهم من هذا العلم، ويكثر نصيب أصحاب الشدة والشَّظَف منه، وإن كان هذا ليس مطِّردا دائما. وأصحاب الشظف لا يجدون كتبا كثيرة فيعتمدون على الحفظ، عكس أهل المدن الكبرى التي كانت الكتب فيها متوافرة.
ومن قارن قرى موريتانيا بالقاهرة أو حيدر آباد -أو أي مدينة من المدن التي كانت فيها المطابع- فقد أخطأ في التصور، فالكتب المطبوعة كانت نادرة الوصول إلى موريتانيا، ولذلك كان العلماء الشناقطة ينشدون أشعارا في الكتب التي تصلهم مطبوعة، وكان جدي يقول إن أيّ كتاب لم يُختَم بالمطالعة فليس "مَـحْرَماً" للكتب المقروءة، فلا يجوز أن يوضع معها!ٍ ولندرة الكتب كان الناس يحفظونها عن ظهر غيب، وكان الشيوخ لا يشرحون لطلابهم الدرس قبل حفظه في الغالب.
فالمتون التي حفظت أنا مثلا أيام الطلب في النحو والصرف هي ’لامية الأفعال’ لابن مالك الأندلسي (ت 672هـ/1274م) مع طُرَّة (= حاشية) العلامة الحسن بن زين الشنقيطي (ت 1315هـ/1898م)، وألفية ابن مالك مع ’الجامع بين التسهيل والخصاصة’ للعلامة المختار بن بونا الشنقيطي (ت 1220هـ/1805م). و’أوضح المسالك’ لابن هشام المصري (ت 761هـ/1360م) وبقية كتبه النحوية، وأيضا كتب ابن مالك النحوية الأخرى.
وفي فن الحديث أولُ ما يبدأ به الأولاد ’الأربعون النووية’ للنووي و’العمدة’ للمقدسي (ت 600هـ/1203م) ، ثم يأتي ’الموطأ’ للإمام مالك (ت 179هـ/795م) و’الصحيحان’ للبخاري (ت 256هـ/870م) ومسلم (ت 261هـ/875م)، ثم بقية الكتب الستة. وفي السيرة والأنساب يبدؤون بمنظومات للعلامة أحمد البدوي الشنقيطي (ت 1208هـ/1793م) كنظم ’الغزوات’ ونظم ’الأنساب’ الكبير (1380 بيتا)، ونظم ’الخاتمة’ في تاريخ الخلفاء الراشدين والدول الإسلامية، وكذلك نظم ’الدُّوَل’ لابن الخطيب الأندلسي (ت 776هـ/1374م)، وفي الشمائل النبوية يدرسون ‘الشمائل المحمدية‘ للترمذي (ت 279هـ/892م)، و‘شمائل الرسول‘ لابن كثير (ت 774هـ/1372م)، ونظم ’الشمائل’ للعلامة ابن مُتّالي الشنقيطي (ت 1287هـ/1870م).
ثم في مصطلح الحديث يبدؤون بمنظومة العلامة سيدي عبد الله الشنقيطي (ت 1233هـ/1818م) المسماة ’طلعة الأنوار’، ثم ألفية الحافظ العراقي، ومنهم من يقرأ ’مقدمة ابن الصلاح’ (ت 643هـ/1265م) مع ’تدريب الراوي’ للسيوطي (ت 911هـ/1505م). وفي علم الفقه يبدؤون بالمختصرات التي تدرّسها الأمهاتُ لأطفالهن مثل ‘مختصر الأخضري‘ ومتن ‘نظم ابن عاشر‘، ثم يدرسون على المشايخ ’متن الرسالة’ و’مختصر خليل’ ومعه جميع شروحه الشنقيطية والمصرية والمغربية.
وفي الفقه المقارن يبدؤون بـ’القوانين الفقهية’ لابن جُزَي الأندلسي (ت 741هـ/1341م)، ثم يتدرجون في الكتب الكبرى الجامعة للمذاهب الفقهية. وفي الأصول يبدؤون بـ’الورقات’ لإمام الحرمين الجويني (ت 478هـ/1085م) أو بأحد أنظامها الشنقيطية، ثم يدرسون نظم ’الكوكب الساطع’ للسيوطي (1450 بيتا)، وهو نظم مُحْكَمٌ جدا لـ’جَمْع الجوامع’ لابن السبكي (ت 771هـ/1370م)، وكذلك يدرسون ’مراقي السُّعود’ (1001 بيت) لسيدي عبد الله الشنقيطي المتقدم.
رسوخ وعطاء
* في ظل تشعب العلوم التراثية وانتشار سلالاتها كما أوضحتموه؛ كيف يصل طالب العلم إلى الموسوعية؟
انطلاقا من رؤيتنا النقدية لمناهج الجامعات العاجزة عن تخريج علماء متقنين؛ حاولنا في "مركز تكوين العلماء" أن نسد هذه الثغرة، فكانت مقررات المركز شاملة ومركزة، مع إرفاقها ببُعدٍ آخر يغيب عن الجامعات والمدارس الحديثة وهو البعد التربوي، حيث قسمنا قيم الإسلام إلى قيم كبرى تُرَسَّخُ بالتدريج لدى الطلاب في كل مرحلة دراسية، مع برنامج تربوي يتضمن "عمل اليوم والليلة" وفق السنة النبوية في ذلك، فينشأ الطلاب علماء عاملين. والذي دعانا لهذا هو كثرة الفجور وغلبته على علماء السلاطين الذين يبررون لكل ظالم ما يحلو له من سفك الدماء وظلم الناس.
ولم نهمل في "مركز تكوين العلماء" البعد المعاصر؛ فالطلاب يُلزَمون بإعداد بحوث مقارنة، ويكوَّنون مكتبيا ويزورون المؤسسات الأخرى للاستفادة منها والاطلاع على تجاربها النافعة، مع الحرص الشديد على حفظ المقررات التي هي 226 كتابا، واستيعابها وتكوين ملكات علمية في 63 فنا كما تقدم، وبتخرّج الطالب من المركز يكون هو وحده بمثابة 63 دكتوراً، لتخصصه في كل هذه الفنون التي يتخصص الدكاترة المعاصرون في فن واحد منها!
* في مواجهة النقد الموجه للمتون والحفظ؛ يتساءل البعض عن إمكانية أن يكون الإنسان عالما بدون دراسة وحفظ هذه المتون؟
بالنسبة لحفظ هذه المتون لا يمكن أن يكون الإنسان أصلا طالبَ علم بدونه، فمجرد المطالعة لا يكوّن عالما لأنه لا يبقى معه من المطالعة إلا بعض المعاني الشاردة، لكن ما حفظه الإنسان دائما فيكون كما قال الإمام الشافعي (ت 204هـ/820م):
علمي معي حيــــثما يمَّـــــمْتُ يتبعني ** قلــــــبي وعـــاءٌ له لا جـــوفُ صندوقِ
إن كنتُ في البيتِ كان العلم فيه معي ** أو كنتُ في السُّوقِ كان العلمُ في السُّوقِ!
وحفْظُ هذه المتون وإتقانُها هو الذي يبقى مع الإنسان من هذه العلوم، وسيكون الإنسان حينئذ مستحضرا لكل هذه الشروح وتظل باقية معه، وكان بعض علمائنا الشناقطة يقرأ درسه اليومي من المتن العلمي ألف مرة حتى يحفظه حفظا متقنا، ويكرر شرح شيخه لمعانيه مئة مرة!! كما أن الحفظ شرط للفهم والاستيعاب الكامل للعلوم مما يعين على الاستنباط فيها.
* من المعروف أنكم رحلتم إلى المشرق للدراسة الجامعية؛ فماذا أضافت لكم تلك الرحلة؟ وما هو تقييمكم للجامعات الحديثة؟
بالنسبة للرحلة إلى المشرق فإنها كانت عام 1408هـ/1988م؛ إذ حججت ذلك العام أول مرة ثم حججت بعدها قرابة ثلاثين مرة متتالية، وكانت مواسم الحج والعمرة وغيرهما فرصة كبيرة للقاء العلماء والمشايخ الوافدين من أنحاء العالم الإسلامي.
في تلك الرحلة درست سنتين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، كما درست فيها الماجستير في الفقه وسجلت فيها للدكتوراه. ومما استفدته في هذه الرحلة تعلم المناهج العلمية المعاصرة وطرق البحث وتحضير الدروس، وغير ذلك من الوسائل البحثية التي لا يعرفها أهل بلادنا حينها، كما تعلمت فيها تخصصات معاصرة لم تكن لي فيهما أي مشاركة قبل الجامعة، مثل الاقتصاد الإسلامي ومناهج التدريس الحديثة وتحقيق المخطوطات. وقد تعرفت أيضا فيها على كتب الفكر المعاصر، واستفدت بلقاء المشايخ ومناقشتهم والانتفاع من عقولهم. ولم تكن رحلتي مقتصرة على الحجاز فقد زرت مصر والتقيت العديد من علمائها، كما رحلت إلى الشام فأدركت بعض علمائها واجتمعت أيضا ببعضهم في الحجاز.
أما تقييمي لتلك الجامعات؛ فأنا أرى أنها مراكز للتكوين البحثي فقط لأن أغلب المشايخ ليس لديهم ذلك الحفظ والرواية والتفنن ويغلب عليهم التخصص، وإن كان لبعضهم موسوعية. والحقيقة هي أن مؤسسات التعليم والجامعات المعاصرة لم تُنشأ أصلا لتخريج علماء لا على المدى البعيد ولا الوسيط، وإنما أنشئت لتكوين باحثين متميزين ومستوعبين لعصرهم وذلك مجاراة للجامعات الغربية.
ولذلك حين ننظر في مقررات الجامعات المعاصرة نلاحظ أن مجالسها العلمية والأكاديمية لا تقرر في علم من العلوم إلا أخصر المختصرات فيه، وحين تقترب الامتحانات يحدد الأستاذ جزءا من ذلك المختصر للطلاب ليذاكروه، والأستاذ نفسه قد يكون غير مستوعب للمادة التي يدرسها، وهذه الطريقة لا يمكن أن تكوّن باحثا جادًّا فكيف بعالم موسوعي متفنن؟!
* ما هي مآلات الشروح العلمية التي قمتم بها في مجالسكم العلمية أيام دراستكم في الرياض؟ وما المتون التي أكملتم شرحها خلال تلك الفترة؟
بالنسبة لشروح المتون فلم يكن من عادتي الاحتفاظ بها وإنما كان يسجلها وينشرها بعض طلبة العلم والمهتمون بالمتون، وقد تستضيفها بعض المؤسسات مثل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي شرحتُ في مسجدها خلال فترة دراستي الجامعية: ‘صحيح البخاري‘، شرح ’السلم المرونق‘ في المنطق، و’لامية الأفعال’ في التصريف مرتين، وشرح ’ألفية ابن مالك’ في النحو، وشرحت كتبا في علم أصول الفقه هي: ’الكوكب الساطع’ للسيوطي، و’مرتقى الأصول’ لابن عاصم الغرناطي (ت 829هـ/1425م)، و’سلم الأصول’ للعلامة محنض بابه الشنقيطي (ت 1277هـ/1860م)، و’شرح اللُّمع’ لأبي إسحق الشيرازي (ت 476هـ/1083م)، كما شرحت ’ألفية العراقي’ في مصطلح الحديث، و’العمدة’ في الفقه الحنبلي.
كما أقامت وزارة الأوقاف بدولة قطر كثيرا من الدورات شرحتُ فيها ’المعلقات’ ونُشر منها فقط معلقة امرئ القيس، و’التمهيد في تخريج الفروع على الأصول’ للإسنوي (ت 772هـ/1371م)، وكذلك وزارة الأوقاف بالكويت فقد شرحت في دورات استضافوها كتبا منها كتابِي ’مراتب الدلالة’ في أصول الفقه وقد طبعته الوزارة، و’الأربعون المنذرية’ في أدلة الأحكام للمنذري (ت 656هـ/1258م). كما أقمت دورات في أوروبا أهمها دورة في دار الرعاية بلندن شرحت فيها ’مقالات الإسلاميين’ لأبي الحسن الأشعري (ت 324هـ/935م)، وكتاب ’مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول’ للتلمساني (ت 771هـ/1370م)، ومتن ’الرسالة’ لابن أبي زيد القيرواني (ت 386هـ/996م).
جهود مقدرة
* يشكو كثيرون من أزمة الاطلاع على التراث العربي في منابعه الأصلية؛ فكيف ترون المنهج الأمثل لمطالعة كتب التراث؟
بالنسبة للاطلاع على كتب التراث فهو أمر لا بد منه خصوصا لطلاب العلم والمثقفين والباحثين، فحتى ولو درس أحدهم الكتب المعاصرة المقرِّبة للتراث فإن الاطلاع على الأصول وأمهات الكتب لا غنى عنه لطالب العالم، بل إن بعض الكتب التراثية يحتاج إلى دراسة متعمقة متأنية تستخرج دررها وكنوزها، فـ’كتاب سيبوَيْه’ أصل لا بد من الاطلاع عليه لدارس النحو، و’ألفية ابن مالك’ صارت من الأصول النحوية التي لا بد من معرفتها، ويقاس على هذين كل الكتب المؤسِّسة في مختلف الفنون فالدارس المتخصص لا يعتبر كذلك ما لم يصحب الأمهات، وهي كتب صارت مطبوعة ميسرة ومحققة.
أما مناهج الاطلاع والمدارسة فقد تطورت، وهي مختلفة باختلاف الأشخاص وتكوينهم المعرفي وما يسهِّل لهم الانتفاع؛ فبعض الدارسين تعوّد النقاش والمثاقفة مع أقرانه وزملائه، وهذا منهج جيد لانتفاع الشخص بعقل غيره، وبعض المطالعين اعتاد الانفراد والخلوة ويراها أنفع لنفسه مع جَرْد المطولات ومقارنتها بغيرها من الكتب المؤلفة في بابها ليعرف حقيقة تكوُّن هذا العلم وتشعبه. وأرى أن المنهج الأفضل هو الجمع بين المنهجيْن لما فيه من فوائد تدبّر العزلة وتأمّل الانفراد ومقابسة الأقران والزملاء، ومن الوسائل التثبيتية المهمة للباحثين في هذا العصر كتابة البحوث التراثية ومناقشتها مع المتخصصين، فالبحث العلمي وسيلة من وسائل حفظ العلم في هذا العصر.
* كيف تقيّمون جهود صياغة معارف التراث عموما في الكتب المعاصرة التي تتناول علومه ومسائله (كتب تيسير علوم الفقه والأصول والحديث والنحو… إلخ)؟
ينبغي أن يكون لأهل كل زمان كتبهم ومؤلفاتهم اللائقة بهم على مستوى لغتهم وثقافتهم وفهمهم، ومن هنا لا أرى بأسا في الكتب المعاصرة التي ألِّفت في فنون شتى تقريبا لعلوم التراث وتيسيرا لفهمه، وهي كتب مشهورة متفاوتة الحجم والمستوى العلمي وهو أمر طبيعي. وهذا التقريب والتيسير ينبغي أن يشمل جميع العلوم، ومن أشدها حاجة للتقريب والتجديد كتب الفقه؛ إذ يحتاج أهل العصر كتبا فقهية تنطلق من واقعهم، وتأتي بأمثلة معاصرة بدل الأمثلة القديمة فالمعاملات المالية الحالية مختلفة اختلافا جذريا عن المعاملات القديمة في التصور والأمثلة.
* شهد العصر الحديث كذلك حركة إحياء وتحقيق لكتب التراث المختلفة؛ فكيف تقيمون جهود هذه الحركة في بُعديْها الاستشراقي والعربي/الإسلامي؟ ومن هم أفضل المحققين في عصرنا من واقع اطلاعكم؟
ما تجدد في عصرنا هذا من تحقيق الكتب التراثية -ببُعديْه الاستشراقي والعربي الإسلامي- هو مما نفع الله به تراث هذه الأمة؛ فقد كانت الرواية قديما تسُدُّ مسدَّه إذ لم يكن طلاب العلم يكتفون بقراءة الكتب انفرادا، بل كانوا يقارنون النسخ على أصولها وينقحونها ويضيفون الزوائد والهوامش. والواقع أن المسلمين سبقوا غيرهم إلى تحقيق المخطوطات، وأقدم من فعل ذلك شرف الدين اليونيني (ت 701هـ/1301م) رحمه الله حين أخذ نُسَخاً من ‘صحيح البخاري‘ وجمع ستة عشر عالما (فيهم الإمام ابن مالك النحوي)، فقارنوا بين النُّسَخ وكتبوا رموزا وإشارات لاختلافاتها. وبفضل جهود اليونيني التحقيقية هذه كانت نسخته من البخاري أصلا فريدا اعتمد عليه مَن جاء بعده من شُرّاح البخاري القدماء ومحققيه المعاصرين.
أما المستشرقون فإنهم ليسوا سواسية في خدمتهم للتراث؛ فبعضهم انطلق في تحقيقه واعتنائه بالتراث من خلفيات استعمارية حاقدة على الإسلام والشرق، فكان اعتناؤهم انتقائيا متحاملا وبعض تحقيقاتهم تعتمد التحريف كما في تحقيقهم لكتاب ’المصاحف’ لابن أبي داود السجستاني (ت 316هـ/928م). ومع ذلك لا ننكر أن بعض المستشرقين انطلقوا من اهتمامهم بالتراث -تحقيقا ونشرا- منطلقا علميا بحتا، فخدموا بذلك التراث وأبلوا فيه بلاء حسنا.
وأما التحقيق الإسلامي فقد أبلى فيه أعلامٌ بلاءً حسناً فكانت أياديهم بيضاء على تراث أمتنا إخراجا وتصحيحا؛ مثل آل شاكر: أحمد شاكر (ت 1377هـ/1958م) وأخيه محمود شاكر (ت 1418هـ/1997م)، وابن خالهم عبد السلام هارون (ت 1408هـ/1988م)، فهؤلاء أخرجوا كنوز تراثنا الشرعي واللغوي والأدبي منه، ولم تزل تحقيقاتهم أصولا يُعتمد عليها، وكذلك مَن في جيلهم من محققي مصر الكبار مثل محمد أبو الفضل إبراهيم (ت 1400هـ/1980م)، وعلي محمد البجاوي (ت 1399م/1979م)، وبعدهم جاء جيل الشيخ عبد الفتاح الحلو (ت 1414هـ/1994م).
وفي غير مصر كان محققون من كل الأقطار الإسلامية بالمغرب والجزائر والجزيرة العربية والشام والعراق وفي الهند، ولا ننسَ الدور الذي قامت به مجامع اللغة في القاهرة ودمشق وبغداد من إخراج متقَن لكتُب التراث، فتحقيقات أعضاء المجامع العلمية واللغوية تغلب عليها الجودة، وقد اعتنى محققون بتراث أعلام معينين، وكان الشيخ محمد أبو الأجفان (ت 1427هـ/2006م) من المحققين المشهورين الذين خدموا التراث المالكي خدمة جليلة. ومن الأعلام الأحياء الذين اعتنوا بتراث الذهبي وأخرجوه إخراجا متقنا المحقق العراقي بشار عواد.
وثمة محققون برزوا في تحقيق السُّنة وتمييز صحيحها من سقيمها، وكان فارس هذا الميدان الشيخ الألباني (ت 1420هـ/1999م) وهو من المحققين الذين عرفتهم. ولا يخفى أن التحقيق في عالمنا الإسلامي شهد نهضة كبيرة أفادت العلم وأهله وصانت التراث، قبل أن يُتَّخَذ التحقيق والنشر تجارة وتربحا؛ ورغم أن بعض الكتب التراثية المحققة قد تكون فيها أخطاء فادحة، إما لاعتماد المحقق على نسخة واحدة غير مروية ولا مقابلة أو لكونها طُمست سطورها لأي سبب.
اقتباس متبادل
* ما هي معايير "التراثية" في نظركم.. أي كيف نصنف كتابا ما على أنه من التراث؟ وهل التراث مقتصر على ما كتبه المسلمون فقط دون غيرهم من أبناء الحضارة الإسلامية؟
بالنسبة للتراث فإنه في أصله يعني الموروث الذي يحرص الناس عليه، وهذا الموروث في حضارتنا أقسام؛ أولها: القسم الذي أنتجه المسلمون وغيرهم في عصر الإسلام، والثاني: أشعار وأخبار مروية عن العرب الجاهليين، والثالث: مترجمات عن الأمم الأخرى كالإغريق والفُرْس والهند وغيرهم. وكل هذه الأقسام من تراث هذه الأمة لأنها شاركت في تكوينها الثقافي وخيالها الأدبي وتأطير شخصياتها العلمية؛ فنحن الآن من تراثنا شعر الشعراء الستة الجاهليين و‘ديوان الحماسة‘ وغير ذلك، ومن تراثنا أيضا ما تُرجم عن الإغريق من المنطق والفلسفة، وكذلك ما تُرجم من آداب الأمم الأخرى مثل ’كليلة ودمنة’.
وثمة تصنيف ثقافي آخر يجعل بعض المنتَجات الأدبية عالمية الانتماء لمشاركة جميع الحضارات في صياغتها، مثلما تقضي به معايير منظمة اليونسكو المعروفة. فنحن قد أثرت عدة عوامل في حياتنا الثقافية من المترجَمات المستورَدة، وأظهر معالم ذلك التأثيرِ تلاحَظ في شعر بعض الشعراء الذين أثـّـروا بدورهم فيمن جاء بعدهم، كما نجد ذلك في القصيدتين السينيتيْن الشهيرتين لأبي نواس (ت 198هـ/813م) والبحتري (ت 284هـ/898م) عن ثقافة الفرس وآثارهم في ميادين الحرب ومجالس اللهو والشراب.
* ما ضوابط تعامل المسلمين مع تراث الأمم الأخرى أخذاً وتركاً.. في ظل ما يقال عن التأثير الساساني الفارسي الكبير في الفكر السياسي الإسلامي؟
بالنسبة لنا لا نضيق ذرعا ولا نكتم أننا تأثرنا بالأمم الأخرى، وأنا نعتبر الحضارات إرثا إنسانيا عالميا مشترَكا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ فكرة حفر الخندق من حضارة الفرس، وأخذ فكرة الخاتم (= ختم الرسائل الرسمية) من حضارة الروم، وليس لدى المسلمين أي عُقدة نقص في أخذ ما هو صحيح نافع من الأمم الأخرى، لا سيما في مسائل الحضارة المادية التقنية.
وفيما يخص الجانب السياسي؛ فإنه لم يكن لدى العرب نظام حكم لأنهم كانوا أمة بدوية، ولما توسعت الدولة الإسلامية احتاجوا إلى أن يقتبسوا مما لدى الآخرين، وحينئذ لم يكن هذا الاقتباس عفويا ولا ساذجا بل كان عن خبرة ودراسة، وتلك مهمة قام بها التراجمة المتقنون لتلك الحضارات ولغاتها، وكانت الدولة إذا احتاجت كتابا معينا أنفقت الأموال على ترجمته واقتنائه، وكان ذلك الانتقاء صادرا عن قرار سياسي ولكل قرار سياسي سلبيات وإيجابيات، ولم نختر غالبا من منتَجات تلك الحضارات إلا أعلاها وأسماها، وكان العلماء بالمرصاد لتنقية تلك العلوم المترجمة من شوائب جذور بعضها الوثني.
وفي المقابل؛ تأثرت الأمم الأخرى بالحضارة الإسلامية بما فيها النهضة الأوروبية الحديثة، حتى إن "قانون نابليون" الفرنسي اعتمد على الفقه المالكي، وقد أخذ الأوروبيون وغيرهم من أعلامنا -كالفارابي (ت 339هـ/950م) وابن سينا (ت 428هـ/1037م) وابن رشد (ت 595هـ/1198م) وابن الهيثم (ت 430هـ/1041م) وابن البيطار (ت 646هـ/1248م)- كثيرا من مسائل الطب، فبنوا عليها الطب الحديث وكذلك الفلسفة، والأممُ عالةٌ على المسلمين في علوم الجغرافيا والمطالع الفلكية!
المصدر : الجزيرة