
يُعدّ الموثّق، بصفته "ضابطاً عمومياً"، حجر الزاوية في المنظومة العدلية، حيث يمنح القانون لمحرّراته حجية خاصة تضعها في مرتبة الأحكام القضائية التي اكتسبت الدرجة القطعية.
وتتعاظم هذه المكانة المركزية نظراً لاختصاصه بتحرير العقود وإنشاء الأصول وتوثيق التصرفات ذات القيمة المالية العالية، خاصة في مجالات العقارات وتأسيس الشركات والمعاملات التجارية.
هذا الموقع الاستراتيجي يضع الموثّق على خط التماس مع العمليات المالية التي قد تُستغل كقنوات لـغسل الأموال (Blanchiment de capitaux) وتمويل الإرهاب (Financement du terrorisme)، فضلاً عن جرائم اقتصادية أخرى كالفساد والاختلاس والاحتيال.
وعلى الرغم من المكانة التي يحظى بها الموثّق، فإن القانون المنظم لمهنته في موريتانيا، وإن كان متقدماً في بعض الجوانب الإجرائية، لا يزال يعاني من ثغرات جوهرية تَحُول دون انسجامه الكامل مع المتطلبات الوطنية والالتزامات الدولية، خاصة تلك المستمدة من توصيات مجموعة العمل المالي (GAFI)، ومن هنا، تبرز الحاجة إلى قراءة نقدية معمقة لأحكام هذا القانون لتشخيص مواطن القصور واقتراح الإصلاحات التشريعية والمؤسسية الكفيلة بتحويله إلى ركيزة فاعلة في المنظومة الوقائية لمكافحة الجرائم المالية.
أولاً: الضمانات الأساسية في التشريع الموريتاني الحالي
يؤسس القانون الموريتاني لمهنة التوثيق على جملة من المبادئ الجوهرية كالنزاهة والاستقلالية والحياد، مع تأكيد صريح على حماية السر المهني، كما يرد نص يحيل بشكل عام إلى وجوب الالتزام بأحكام قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويخضع الموثّقين لرقابة جهة غير محددة بوضوح. بالإضافة إلى ذلك، يفرض النص الحالي على الموثّق مسك سجلات ودفاتر محاسبية منتظمة، وإدارة حسابات الأمانات وفق إجراءات مضبوطة، ويخضع مكتبه لقيود خاصة في حالات الحجز والتفتيش.
هذه المقتضيات، وإن شكلت في مجملها إطاراً مهنياً مقبولاً، إلا أنها تبقى عامة وغير قادرة على أن تترجم بفعالية إلى التزامات وقائية عملية ومفصلة، على النحو الذي تفرضه المعايير الدولية لمكافحة الجرائم المالية.
ثانياً: أوجه القصور والثغرات التشريعية
يكشف تحليل نقدي متعمق للنظام القانوني الحالي عن عدة ثغرات جوهرية تعيق فعاليته:
1. الإحالة العامة وغياب التفصيل: يكتفي القانون بإحالة عامة إلى قانون مكافحة غسل الأموال، دون تفصيل الإجراءات العملية لواجبات مثل العناية الواجبة بالعميل (Diligence raisonnable du client) أو آليات التعرف على المستفيد الحقيقي (Identification du bénéficiaire effectif)، مما يترك الموثّق في حيرة من أمره إزاء التطبيق العملي.
2. تعارض السر المهني مع واجب الإبلاغ: يُعد غياب استثناء صريح من مبدأ السرية يسمح للموثّق بالإبلاغ عن المعاملات المشبوهة إلى وحدة الاستخبارات المالية (Cellule de renseignement financier) إشكالية كبرى. كما يفتقر النص إلى تجريم واضح للإفشاء للعميل (Tipping-off)، أي إبلاغه بوجود شكوك أو بلاغ ضده، مما يهدر فرص التحقيق.
3. غياب هيئة رقابية فعالة: لم يحدد القانون بشكل واضح طبيعة السلطة الرقابية المختصة (هل هي وزارة العدل، هيئة مهنية، أم هيئة مستقلة؟) ولا الصلاحيات المخولة لها، على عكس ما تنص عليه التوصية 28 لمجموعة العمل المالي (GAFI) التي تؤكد على ضرورة وجود جهة رقابية فعالة للمهن غير المالية.
4. قصور في نظام حفظ السجلات: لم يحدد النص مدة حفظ السجلات والوثائق، أو يربطها بفترة زمنية تتماشى مع المعيار الدولي (5 سنوات على الأقل)، مما يعيق عملية التتبع المالي عبر الزمن.
5. غياب تقييد للمدفوعات النقدية: على الرغم من أن المكاتب التوثيقية مدخل رئيسي لتدفقات الأموال غير المشروعة، لا يوجد سقف للمدفوعات النقدية، ولا آلية لإلزام الموثّق بالتحقق من مصدر الأموال في المعاملات الكبرى، خاصة العقارية.
6. الافتقار إلى نظام الامتثال الداخلي: لا يلزم القانون الموثّقين بإنشاء وتطبيق سياسات داخلية للامتثال، أو تعيين مسؤول عن الالتزام (Responsable de conformité)، أو وضع برامج تدريبية دورية، وهي جميعها متطلبات أساسية في الممارسات الدولية الفضلى.
ثالثاً: الإطار الدولي والإقليمي الملزم
تستمد موريتانيا التزاماتها في هذا المجال من عضوية مجموعة العمل المالي (GAFI) والاتفاقيات العربية والإفريقية لمكافحة الفساد وغسل الأموال، بالإضافة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (اتفاقية باليرمو - Convention de Palerme).
هذه الأطر تلزم الدول بفرض واجبات محددة على المهن غير المالية المُحدَّدة، بما فيها مهنة التوثيق، تشمل:
- التحقق من هوية العميل والمستفيد الحقيقي
- تطبيق العناية الواجبة المعززة عند التعامل مع الأشخاص المشهود لهم سياسياً (Personnes politiquement exposées - PEP).
- حفظ السجلات لفترة لا تقل عن خمس سنوات.
- الإبلاغ الإلزامي عن المعاملات المشبوهة.
- الامتناع عن إتمام المعاملة في حال الاشتباه.
- الخضوع لنظام رقابي فعال قائم على تقييم المخاطر، ومصاحب بعقوبات رادعة عن التقصير.
رابعاً: مقترحات للتطوير والتحديث التشريعي والمؤسسي
لجسر الهوة بين الواقع الحالي والمتطلبات الدولية، نقترح حزمة من الإصلاحات التشريعية والمؤسسية:
1. تعديل تشريعي جوهري: إدخال فصل خاص في قانون المهنة يحدد بالتفصيل الالتزامات الوقائية، بما فيها:
- تفصيل إجراءات - العناية الواجبة والعناية المعززة
- إلزامية التعرف على - المستفيد الحقيقي وتسجيل بياناته الكاملة في جميع المحررات.
- النص صراحة على وجوب الإبلاغ عن المعاملات المشبوهة كاستثناء من -السر المهني، وتجريم -الإفشاء للعميل
- فرض مدة دنيا لحفظ السجلات (5 سنوات) وربطها بطبيعة المعاملة وقيمتها.
2. إنشاء هيئة رقابية متخصصة: تحديد هيئة رقابية واضحة (كإدارة متخصصة في وزارة العدل أو هيئة مستقلة) ومنحها صلاحيات كاملة للتفتيش، وإصدار أدلة إرشادية قطاعية، وفرض عقوبات إدارية ومالية متناسبة ومردعة.
3. تقييد المدفوعات النقدية: فرض حد أقصى للمدفوعات النقدية في المعاملات الموثقة (مثلاً، ألا تتجاوز 10% من قيمة الصفقة أو مبلغ محدد)، وإلزام الموثّق بالتحقق من مصدر الأموال للمبالغ التي تفوق حداً معيناً، عبر طلب كشوف الحسابات أو أي مستند إثبات آخر.
4. إرساء ثقافة الامتثال الداخلي: إلزام مكاتب التوثيق، وخاصة الكبيرة منها أو التي تتعامل مع عملاء دوليين، بما يلي:
- تعيين مسؤول عن الالتزام
- وضع سياسات وإجراءات داخلية مكتوبة لإدارة المخاطر والامتثال.
- تنظيم دورات تدريبية سنوية للموثقين وموظفيهم على أحدث أساليب الكشف والوقاية.
5. تعزيز البنية التقنية: تطوير منصة إلكترونية موحدة وآمنة للإبلاغ الفوري عن المعاملات المشبوهة، مرتبطة مباشرة بـوحدة التحقيقات المالية، مع توفير نماذج إلكترونية مبسطة وضمان سرية وسرعة الإجراء.
خامساً: الآثار المتوقعة للإصلاح
سيعود هذا التحديث الشامل بفوائد جمة، حيث سيعزز من متانة النظام المالي الوطني ويمنع استغلال المكاتب التوثيقية كقنوات لآضفاء الشرعية على عائدات الجريمة . كما سيرفع كفاءة الأجهزة الرقابية والتحقيقية في رصد وتفكيك شبكات غسل الأموال والفساد والاختلاس، ويُظهر التزام موريتانيا الجاد بمعايير الشفافية الدولية، مما يعزز ثقة المستثمرين ويحمي السمعة الدولية للبلد. كل ذلك دون المساس بالضمانات الأساسية للمهنة أو تقويض سرية المعاملات المشروعة.
خاتمة
لم يعد تطوير قانون الموثّقين في موريتانيا ترفاً فقهياً، بل هو ضرورة ملحة وأحد متطلبات السيادة القانونية والاقتصادية. فالموثّق، بحكم موقعه، يحرس بوابة حساسة في النظام الاقتصادي. والتأخر في سد الثغرات التشريعية يعد ترخيصاً ضمنياً لاستغلال هذه المهنة النبيلة في تبييض الأموال وإضفاء الشرعية على موارد الفساد.
إن الإصلاح المقترح هو في جوهره استثمار في سيادة القانون، وحماية للمال العام، وتحصين لمصداقية المؤسسات الوطنية، ودفاع عن الأمن الاقتصادي للدولة.
—————————-
- القاضى محمدن الشيخ
- مكلف بمهمة لدى وزير العدل
- عضو سابق فى وحدت التحقيقات المالية الموريتانية