الدكتور بلال ولد حمزة .. شهادة للوطن والتاريخ بقلم : سعدبوه ولد محمد المصطفى

سبت, 08/16/2025 - 21:40

كانت الساعة الخامسة من يوم الجمعة ١٧/٠٨/٢٠٢٤ وكنت أتوقع اتصاله ، وفجأة كانت المتصل هو الإبن البكر محمد وقال لي : رحم على الوالد ، يقصد د. بلال ولد حمزة ، فقد صعدت روحه هذه اللحظات .. أجبته وأنا في غاية الصدمة والتأثر : الرحمة والغفران وجنة الرضوان .. وبادرته : أين ستصلون عليه .. أخبرني أن الصلاة ستكون في مسجد الرابع والعشرين ، وسيدفن في مسقط رأسه قريبا من روصو .. ركبت سيارتي من منزل أخي الدكتور محمد الحسن في منطقة البوادي وذهبت مسرعا إلى بوحديدة لكي لا تفوتني صلاة الجنازة ، وفي الطريق مر بي شريط ذكريات طويل وتتابعت في ذهني صور المرحوم في مختلف مراحل حياته المليئة بالعطاء الأكاديمي والعلمي والمشاركة السياسية البناءة والعمل الجاد من أجل تكريس الوحدة الوطنية وخلق انسجام حقيقي بين فئات الشعب الموريتاني الذي يمثله بالعين البشرية التي تتكون من سواد العين وبياضها ، وكان يقول بأن سواد العين لا يمكنه أن يستغني عن بياضها ، وهما ضروريان لوظيفة الرؤية وهي من نعم الله للإنسان والحيوان .. 

في مطلع العام الجامعي ٨٧/٨٨ كنا قد قطعنا سنتين من تعليمنا العالي في قسم الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة نواكشوط وللتو دخلنا في السنة الثالثة ، وفجأة دخل علينا في الفصل شاب في مقتبل العمر يتمتع بالنشاط والحيوية وقدم لنا نفسه بأنه أستاذ جديد في الفلسفة الإسلامية وأنه قادم للتو من المغرب .. وتوالت الأيام وهو يتردد علينا في الفصل يشرح لنا إشكاليات الفلسفة الإسلامية من منظور المناهج الإبستيمية السائدة في الدرس الفلسفي في المغرب، وخصوصا عند المفكر سالم يفوت أستاذه المشرف عليه .. وذكر لنا أنه يخوض معنا تجربة فريدة وهي أنه سيدرسنا باللغة العربية فلغة تعليمه كانت الفرنسية ، وقد نجح في التحدي فهو مجتهد ويريد التخصص في مادة الفلسفة الإسلامية و بلغة تدريس هي اللغة العربية .. وخلال وقت قصير حصل عندي القرار وهو أن الدكتور بلال ولد حمزة سيكون المشرف على رسالتي للتخرج العام القادم ، ففي تلك الفترة كنت طالبا مجتهدا ولم أكن أرتاح لأساتذة الفلسفة العامة الذين تبنوا طلابهم المفضلين عندهم، واختيار الأستاذ المشرف هو قرار محسوب بدقة للطلبة الساعين للتفوق ، وعندما قدم علينا الدكتور بلال كانت الفرصة مناسبة لأعرض عليه الإشراف ، ولم انتظر وقتا طويلا فقبل نهاية السنة زرته في منزله في حي سوكوجيم لكصر وأستقبلني بحفاوة هو وزوجته "الفاتحة بنت المولود ولد بومراح " أطال الله عمرها ،وكان ابنه البكر محمد وأخته في سن الزهور صغيرين جدا ..رحب بقرار اختياري له مشرفا واتفقنا بعد لقاءات لاحقة على موضوع البحث وهو : إشكال العلاقة بين الإنسان والله عند فلاسفة المغرب والأندلس، بعبارة أخرى البعد الأنطولوجي والمعرفي في فلسفة ابن باجة وابن طفيل وابن رشد .. وقد حصلت في نهاية نقاشه على درجة ١٦ من ٢٠ وهي الدرجة الثانية في نقاش ذلك العام..

هكذا ربطتني علاقة روحية قوية مع الدكتور بلال ولد حمزة بدأت من هذا العام وحتى رحيله رحمه الله ، أساسها المحبة والاحترام والتقدير، فهو بمثابة الأخ الأكبر والمرجعية الفكرية التي أعود إليها لفك رموز إشكال فكري معين ..

ونظرا لالتحامه مع الطبقات الضعيفة من الشعب فقد اختار الإقامة في دار النعيم ليكون قريبا منهم معايشا لهمومهم ، وانضم إلى حزب أحمد ولد داداه : إتحاد القوى الديمقراطية ،إذ كان معارضا شرسا لنظام حكم الرئيس معاوية ولد الطايع ورفض خلال حكمه الانضمام إليه بالرغم والضغوط التي تعرض لها والاغراءات التي عرضت عليه ، ظل يؤمن أن موريتانيا تحتاج إلى تغيير حقيقي لحل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها .. 

و في يوم ١١ يوليو ٢٠١١ اتصل بي صديقي إجيه ولد سيد إعلي وقال لي بالحرف : أنت صاحبك أعين ، بادرته من تقصد ، قال لي الدكتور بلال ولد حمزة ، أصبح الأمين الدائم لجائزة شنقيط .. وتوجهت إلى منزله في دار النعيم لتهنئته وقالت لي حرمه أنه الآن في المدرسة العليا للتعليم .. وفي مكتبه كرئيس لقسم الفلسفة قمت بتهنئته على هذا التعيين المستحق والمبارك إن شاء الله تعالى.. لقد أمضى رحمه أكثر ثلاثة عشر سنة مسيرا إداريا وماليا لمجلس جائزة شنقيط، وكان مسؤولا عن كل شيئ تقريبا :مسلسل استقبال وقبول الترشحات و تقديمها للخبراء ثم البت النهائي فيها من طرف مجلس الجائزة ، وتنظيم حفل تسليم الجوائز بحضور رئيس الجمهورية بالإضافة إلى تسيير العمال ومراقبة حضورهم اليومي .. إلخ..

فضلا عن هذا كان مكتبه مكان لقاء للأساتذة الجامعيين والمثقفين والطلاب ، وكان النقاش يطال كل المواضيع بدون إستثناء من الفلسفة العامة إلى الفلسفة الإسلامية إلى القضايا الإسلامية المطروحة ، ونظرا إلى قدرته على التوضيح والتبسيط للمتلقي ، كانت الأفكار تتناسل في رأسه ولم يقل أبدا لأي متلق طرح عليه سؤالا : لا أعرف ، ويجيب على الإشكال العويص المطروح بالعديد من الأدلة ، وكثيرا ما أتساءل كيف توصل إلى هذه الأدلة والبراهين وهي بعيدة المنال..

وقبل تعيينه بسنوات اشتاقت روحه إلى الحج ولم يكن يملك إلا سيارته التي باعها وتمكن من أداء تلك الفريضة المقدسة ، وقد جرت أثناءها الكثير من الخوارق منها تمكنه من ملامسة الحجر الأسود مباشرة بالرغم من استحالة ذلك في ذروة طواف الإفاضة وأيضا تمكنه من المواجهة في المسجد النبوي بدون طوق أمني .. وعندما يتحدث عن تجربته في الحج كانت الدموع تفيض من عينيه ويستغرق وقتا طويلا ليتمالك ويواصل الحديث .. وكنت أتعجب من قدرته على حفظ الآيات القرآنية للبرهنة على صحة أفكاره وأطروحاته ..

 ومثل شيخ المحظرة كان هو المتحدث الوحيد في مجالسه ولم يكن أحد يستطيع أن يجاريه في الحديث حتى لو كان عالما أو أستاذ تعليم عال ، كان الجميع يستمعون وهم حيارى من قدرته على توليد الأفكار والإستنباط والإستقراء ولا يملكون إلا التعجب، وكانت الساعات تمضي في مكتبه وهو يحاضر على ضيوفه من دون كلل أو ملل ، وكنت أدخل عليه أحيانا فأجده منهمكا في حديث توجيهي إلى أحد العمال البسطاء أو بعض ضيوفه من العامة ، وكان يبسط لهم القضايا الفكرية الكبرى بأسلوبه السهل الممتنع .. وقد دفعه تدريس العقيدة والقضايا الإلهية في الإسلام إلى طرق عالمالتصوف والكشف الإلهي ولكنه تصوف المفكرين الذين يسعون إلى استخدام البراهين والمنطق لشرح قضاياه العميقة.. وكان أكثر ما يزعجه ويثير إشمئزازه هو الدعوات العنصرية التي راجت عند البعض في تلك الأعوام ، وكان يقضي الساعات الطويلة مع جلسائه للتنديد بها وفضحها والتبرإ من أصحابها ، ولم يكن لهم أي وجود في حياته ، كان يقول بأن الشعب الموريتاني هو شعب واحد ومتجانس ولا يعاني من أي مشاكل عنصرية بل إن أولئك المروجين لها هم وحدهم العنصريون وكان ، كما اسلفت ، يضرب المثل بوحدة الشعب الموريتاني بحاسة العين المكونة من السواد والبياض وهي لا تستطيع تأدية وظيفتها من دون اجتماع سوادها مع بياضها، وهو مستعد لتوصيل أفكاره الوحدوية بالوقوف على كل المنابر و محاورة كل المتطرفين ذوي الأفكار العنصرية، ولهذا تم اعتماده من طرف وزارة التوجيه الإسلامي كمتحدث رئيسي في ندواتها في نواكشوط وفي داخل البلاد ، كما كان ضيفا ثابتا في قناة الموريتانية والقنوات الأخرى للدعوة إلى تقوية اللحمة الإجتماعية وترسيخ الوحدة الوطنية ، وكان يتمنى أن يجلس في حوار مفتوح مع كل المتطرفين من دعاة التفرقة ليردهم إلى جادة الصواب بالمنطق والبرهان ، وأشهد أنه لم يلتق بأحد من زعماء ذلك الإتجاه على الإطلاق ، و هو يحرص على تسفيه أفكارهم عندما يلتقي بأحد المغرر بهم والمروجين لأفكارهم ، وهكذا أخذ شهرته كداعية ومنظر للوحدة الوطنية والسلم الإجتماعي ، وقد تجلى ذلك عندما نعاه وبكاه جميع الموريتانيين من مختلف الفئات والألوان ، فقد غيب الموت مفكرا كبيرا وداعية للأمن والسلم والوحدة الوطنية ..  

لم يكن الدكتور بلال ولد حمزة مهتما بجمع المال حريصا عليه ، بل كان موظفا عموميا يعيش على راتبه من المدرسة العليا للتعليم وجامعة نواكشوط وأيضا الأعمال العلمية والدراسات التي ينجزها لصالح مؤسسات وطنية ودولية فضلا عن إدارته للشبكة الإقليمية للباحثين الأفارقة Rocare والتعويضات العديدة عن محاضراته في موريتانيا وخارجها وأيضا عضويته في المنتديات العامة للتعليم ، أما جائزة شنقيط فكان يحصل منها على تعويض مماثل لتعويض الأمين العام لإحدى الوزارات .. كانت مداخيله تأتيه حصرا من نشاطاته العلمية وكان عليه تلبية كل العروض التي يتلقاها من الداخل والخارج وهو ما مكنه من بناء منزل جديد في حي عين الطلح في تيارت بعد أن حاصرت المياه منزله في دار النعيم وأضطر إلى التخلي عنه والإنتقال للسكن في مقاطعة تيارت المجاورة ، وقد استمر بناؤه لمنزله الجديد عاما كاملا (٢٠١٥) وذلك بسبب الانقطاع المتكرر للموارد المالية ، وهو حريص على أن لا يقترض من البنوك ، وكان ينتظر في كل مرة الحصول على راتبه أو تعويض مالي من نشاط ثقافي ليواصل العمل من جديد ..

 لقد تمكن بفعل نشاطه الدؤوب من تغطية جميع حاجيات أسرته ، وكان جزء من دخله يساعد به عائلته الكبيرة وأقاربه في نواكشوط وروصو ، إذ كان الموظف السامي الوحيد بينهم .. كما أشرف على تربية أبنائه وتعليمهم تساعده في ذلك زوجته الفاضلة أطال الله عمرها.. ومع ذلك لم يدخل على اي مسؤول سام من اصدقائه أو يرفع له السماعة ليطلب منه توظيفهم ، ولك عزيزي القارئ أن تتصور أنه يستضيف كامل حكومة الجمهورية الإسلامية الموريتانية ليوم كامل بمناسبة توزيع جوائز شنقيط ، ولم أشاهده يختلي بوزير ليلبي له حاجة او يحدد له موعدا في المكتب ولم يذكر لي ، وكنت أقرب إليه من الجميع ، أنه قد أخذ موعدا مع الوزير الفلاني أو أنه ذاهب إلى مكتب الوزير الفلاني للقائه ، كان دوامه اليومي يبدأ بالذهاب إلى مكتبه ويبقى فيه حتى غروب الشمس فيعود إلى منزله ، و كان لا يغادر مكتبه إلا نادرا عندما يكون مدعوا لنشاط علمي أو مقابلة إعلامية .. 

ومع أنه كان أستاذا للفلسفة العامة بل والوحيد الذي كان يستطيع أن يقدم درسا فلسفيا باللغة الفرنسية التي يتقنها لفظا وكتابة ، إلا أنه كان نادرا ما يتحدث بها امام الناس وكان يفضل الحديث باللغة العربية فهي لغة الإسلام والفكر الإسلامي وعلى الجميع الإهتمام والعناية بها ، و لهذا السبب كان يستهجن التعبير بالفرنسية ويمرر أفكاره أمام متلقيه بالعربية الفصحى التي أتقنها كتابة وتعبيرا في مدة قصيرة .. 

ومع ثقافته العصرية الواسعة إلا أنه كان محافظا جدا ، وكنت الوحيد الذي يدخل بيته في حضوره و في غيابه فأنا كما يقول: ولد الدار .. 

وكان حريصا على زيارتنا في المنزل رفقة حرمه ويسهر معنا ساعات في سرور ومرح ولم يتوقف عن ذلك إلا خلال معاناته الطويلة نسبيا مع مرضه .. وبالفعل كان يتمتع بخفة دم وبروح فكاهة وتواضع مع الآخرين وكان جليسه يستغرقه الضحك من نكاته وطرائفه التي ينثرها توابل في مجلسه العامر دائما ..

 كما كان منفقا متصدقا لا يفتر ذوو الحاجات عند بابه ويوزع عليهم مبالغ معتبرة وهو يقوم بهذا أيضا لأصدقائه ومعارفه القدامي من من مسهم الدهر بأنيابه ..

ترك الكثير من البحوث والمصنفات في مواضيع الفلسفة والثقافة العامة ونشر كتابا باللغة الفرنسية بعنوان : الأشكال الإجتماعية للفقر في موريتانيا سنة ٢٠١٥..

كما تمت دعوته لمناقشة أطروحات دكتوراه في الفلسفة في الجامعات السينغالية العريقة..أما بالنسبة لمعاناته مع المرض فقد بدأ ذلك بعد عودته من مهمة لصالح حزب الإتحاد من أجل الجمهورية في أوجفت سنة ٢٠١٥ ، إذ ذكر لي أنه يعاني من آلام في القدمين خصوصا عند صعوده للدرج ، ثم بدأ بعد أعوام من ذلك يتحدث عن أعراض عرق النسا في جنبه الأيمن وأصبح يتردد على المعالجين التقليديين ، وفي ٢٠٢٢ ذهب رفقة ابنه البكر محمد إلى داكار وأجرى عملية استئصال البروستات وأخبره الجراح فورا أنها حميدة ثم أكد المختبر الأوربي ذلك لاحقا ، و مع مرور الأيام أصبح جسمه يضمر وعظامه تخونه ولا تساعده في الحركة الطبيعية ، وكنا عندما ينزل من السيارة في مقر العمل نبادر إلى التواجد لمساعدته في صعود الدرج .. ومع كل هذه المعاناة التي لا يعلمها إلا هو أو عائلته ، كانت الإبتسامة لا تفارق فمه ويرسل النكات كالعادة بغير حدود ويؤدي برنامج عمله اليومي كما كان يقوم بذلك في أيام صحته ، يلتقي بالمراجعين ويوقع الأوراق الإدارية ويذهب لتلبية دعوة ما ، وقد تمكن من تنظيم حفل توزيع جوائز شنقيط لثلاث سنوات متتالية (٢٢،٢٣،٢٠٢٤) كان يعاني فيها من المرض ، ولكنه كان يتحمله بصبر وقوة احتمال عجيبتين ، وكان يرفض البقاء في المنزل بسبب المرض بل يحرص على قيادة سيارته بنفسه والتوجه إلى المكتب لتلبية طلبات المراجعين وتسيير شؤون الجائزة .. وقبل أقل من شهر من رحيله زرته في البيت وهو في غاية الضعف ، وقال لي إنه سيسافر إلى نواذيبو لحضور اجتماعات المركز الوطني لبحوث المحيطات وهو عضو في هيأته العلمية ، وحدثتي خلال ذلك اللقاء عن أفكاره النيرة دائما في القضاء على تلوث المحيط والحفاظ على الكائنات الحية .. وقد عاد إلى نواذيبو أيضا كوكيل عن إبنه حمزة ،الذي يعمل هناك، في عقد قرانه ، إذ كان مصرا على ذلك لتعلقه به ، وعندما عاد إلى نواكشوط عانى من الحمى وسرعان ما دخل في غيبوبة توفي على إثرها بعد يومين تقريبا وكان عمره يفوق السادسة والستين .. رحمه الله تعالى..

هذه الشهادة كتبتها لأصدقاء ومحبي الدكتور بلال ولد حمزة وللمواطن الموريتاني..